فن كتابة السيرة الذاتية إن لم يخلط الخاص بالعام وسيرة الشخص بسيرة الوطن يصبح مثل موضوعات التعبير المملة التى كان يطلبها منا مدرس اللغة العربية، وكتاب «كنت صبياً فى السبعينات» للناقد السينمائى محمود عبدالشكور هو من تلك النوعية من السير الذاتية التى عندما تقرأها فأنت تقرأ تاريخ وطن وسيرة أمة وملامح شعب وخريطة سلوك وبورتريه تغير اجتماعى ومخاضاً سياسياً ما زلنا نعانى من جنينه المشوه حتى هذه اللحظة، الكتاب من أمتع ما قرأت فى السنوات الأخيرة؛ فعبدالشكور ليس مجرد صحفى يكتب فى الفن أو ناقد متخصص فى السينما ولكنه صاحب أسلوب أدبى جميل، هو روائى ضل طريقه إلى الصحافة، الكتاب تأتى أهميته الأولى من أهمية فترة السبعينات نفسها، فهى فترة تغيرات حادة وصدمات كهربائية وتقلبات سياسية واقتصادية غاية فى العشوائية والتخبط، فترة انكسارات وانتصارات، الطفل محمود الذى تفتحت عيناه فى الخامسة على مشهد جنازة عبدالناصر، والأهم مشهد أسرته وإحساس اليتم يلفها ويسكن وجدانها وينخر فى أرواح أفرادها المشروخة، هذا الطفل ابن الطبقة المتوسطة سيحكى لنا شريطاً سينمائياً عن السبعينات، سيمس وجدان كل من عاش تلك الفترة بكهرباء سحرية، الكاتب يحكى تفاصيل بذاكرة فوتوغرافية مدهشة وكأنه كان يسجل ويصور كل لقطة وكل دقيقة، بورتريه اجتماعى وجدارية نفسية وسياسية وفنية تصلح وثيقة لعلماء الاجتماع السياسى، دهشة الصندوق السحرى التليفزيونى، الانبهار بهذا اللاعب الأسطورة صاحب الشعر المنكوش الذى يحمل رقم 10 واسمه الخطيب، حكاية أول فيلم، وأسطورة فريد شوقى ملك الترسو ومعشوق الصعايدة، السادات من تنصيبه بطلاً بعد أكتوبر إلى الهتاف ضده فى مظاهرات يناير إلى اغتياله بأيدى من فتح لهم الباب، بصمات الوجدان السبعينى بقلظ ماما نجوى وحكايات بابا ماجد ونادى سينما يوسف شريف وأحاديث الشعراوى، تغير الزى إلى الجلباب والحجاب رصده الكاتب لايف وبالتصوير البطىء، إلى جانب أهمية الفترة هناك ما يمنح الكتاب تفرداً وتميزاً، إنها أهمية الأسرة، فوالد المؤلف هو خير تمثيل للطبقة الوسطى التى كانت تعانى بدايات سحقها فى مطحنة الانفتاح، مدرس فلسفة بجد ممن تربى وتعلم على أيدى توفيق الطويل وفؤاد زكريا وزكى نجيب.. إلى آخر هؤلاء العمالقة، معلم مصرى حقيقى كان يعرف قيمة العلم والتربية، شخصية كتبها «محمود» بسحر وألق وحب وشجن، كاميرا المؤلف رصدت كل كادرات هذه المعاناة التى اعتصرت تلك الطبقة التى كانت رمانة الميزان وبوصلة الطريق الذى تاه منا عندما تاهت تلك الطبقة بين حلم الصعود ورعب السقوط.